الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم
شيخ العلمـــــــاء
و مؤسس المعهد العلمى
1856 – 1934 م

ولد الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم فى عام 1278 هجرية 1856م فى قرية برى المحس من أعمال مدينة الخرطوم. ووالده ( الشيخ أحمد هاشم ) العالم الجليل و القاضى الفقية، قاضى الخرطوم و بربر و التى كانت في ذلك الوقت مدينة شهيرة زاخرة برجال العلم و العلماء. ووالدته محسية و هى السيدة (آمنة محمد المبارك عمر) (بنت وهب-الفقيرة) ووالدها محمد المبارك عمر شيخ القرآن المعروف ببرى المحس و قرى أم مقت و التى . قيل أن الشيخ أحمد هاشم سمعها و هي تتلو القرآن عند ما زار والدها في برى المحس و كان عمرها تسع سنوات فخطبها ثم بنى بها عندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها. و قد إشترطت عليه تدريسها كتاب ( مختصر خليل ) فى الفقة و ( صحيح البخاري ) في الحديث.

حفظ الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم القرآن في خلوة جده محمد المبارك عمر ثم على يدي الشيخ أحمد ود حسين في بربر و كان عمره إحدى عشرة سنة ثم ألحقه والده عند ما أحس بذكائه و فطنته بمسيد الغبش (غرب مدينة بربر) ليتلقى العلوم الدينية و العقلية على يدي الشيخ الذائع الصيت (محمد الخير عبد اللة خوجلى الغبشاوى) الذي كانت له مدرسة عامرة تخرج فيها كثير من العلماء و كان من أبرز تلاميذ تلك المدرسة ( الأمام المهدي). ثم دلف و التحق بمسجد ( أرباب العقائد الشيخ اِدريس ود الأرباب) الجامع الكبير بالخرطوم و لزم الشيخ العالم (حسين المجدي ) فدرس كتاب جمع الجوامع في أصول الفقة.

ترجم له الأستاذ سعد ميخائيل في كتابة ( شعراء السودان ) قائلاً (( إن تعريف حضرة صاحب الفضيلة ألأستاذ ألأكبر الشيخ أبا القاسم أحمد هاشم هو من باب تحصيل الحاصل فهو شيخ العلماء و كفى لا بل هو الشاعر الفحل الذي يجرى و لا يجرى معه، ترى صورته و ما عليه من برد الجلال و الوقار فتظنه فقيهاً سيسمعك الشعر بروح الفقهاء بينما هو يحمل بين جنبية مع التقوى و النزاهة فلو أن البهاء زهير سمعه ينشد:

تبسمت عن در ثغر مستبين   منع البدر ضياة أن يبين
و بدت للورد فى خد  نضــــــــير فراح الورد مصفر الجبين

لتمنى ذلك القول لنفسه. و هو عدا ذلك لغوى مدقق و منطقي متفنن إذا بث راية في مسألة من المسائل العلمية أو ألاجتماعية أو ألأدبية كان رايه الفصل و المعول إليه في المبدأ و المآب. وله ديوان مطبوع سماه ( روض الصفا في مدح المصطفى).

ولما انتشرت دعوة المهدية في كردفان يضيف سعد ميخائيل كان الشيخ أبوالقاسم فى بربر متزوداً بالعلوم و ألآداب فتعين مدرساً بجامعها و ظل بها إلى أن سقطت بيد المهدية ثم اتصل بالمهدي فقربه إليه و جعله كاتباً له و بعد أن لحق المهدي بربه اتخذه الخليفة عبد الله كاتباً أيضاً فظل معه إلى أن سقطت أم درمان و احتلتها الحكومة البريطانية التي عينته قاضياً لمديرية سنار عام ( 1899م ) ثم نقل منها إلى مديرية النيل ألأزرق عام ( 1906 م ) فلما كان عام ( 1912 م ) و قع إختيار الحكومة عليه لما رأته فيه من الجارة و ألاستحقاق أن يكون شيخاً لعلماء السودان فكان لها ما أرادت. و لما كان الشيء بالشيء يذكر أرجو أن أنتهز الفرصة ليعلم القراء الكرام أن لصاحب الفضيلة الشيخ أبالقاسم أحمد هاشم أليد البيضاء في ترقية المعهد العلمي بالسودان و أدخل عليه المكتبة العلمية التي كادت أن تكون في صف أكبر المكاتب العلمية و هو صاحب الفضل في نموها و ترقيتها و نقلها من حالتها القديمة إلى حالتها الحالية.

ثم أدخل الشيخ أبو القاسم مجموعة من العلوم العصرية في ذلك الزمان لى التدرس في المعهد العلمي فأخذ الطلاب في تلقى علوم الجغرافيا و الحساب و ألإنشاء على أيدي أساتذة أجلاء مثل ألأستاذ ( حسين منصور ) و كان يهتم أيما اهتمام بطلابه فضمن لهم وظائف في القضاء و التدريس و غيرها من مجالات العمل. و بذا يكون قد ترك آثاره و واضحة في مسيرة المعهد العلمي فأصبح المعهد مؤسسة علمية متكاملة تحت نظام شامخ ثابت. كانت تلك وقفة مع حياة العالم الجليل في معهد أم درمان العلمي (نواة جامعة أم درمان ألإسلامية) التي استندت على عقيدة الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم الواضحة و على صدق توحهه ألأصيل و على قوة عزيمته و مقدرته التخطيطية الرائعة التي كان يتوخى فيها التدرج و ألأناة و تلمس الخطى.

تخرج على يديه أجيال من العلماء و الأساتذة الذين أسهموا بقدر كبير فيما بعد في تطور و ترقية التعليم في السودان منهم: عبد اللة الترابى، إبراهيم النور، يوسف إبراهيم النور، مجذوب مدثر إبراهيم الحجاز، إبراهيم أحمد ياجى، عبد الرحمن دفع اللة، عبد الملك أبو القاسم و على محمد الصلحى. و غيرهم من العلماء و المشايخ.

كان الشيخ رجلاً بارزاً في الحياة ألاجتماعية في فترة المهدية في الربع ألأول من القرن العشرين، فقد كان بسيطاً مهيباً، تراة لابساً قفطان الدبلان و الجبة و راكباً على (حمارته) ذارعاً بها شوارع أم درمان جيئةً و ذهاباً إلى عمله في المعهد بالجامع الكبير. و كان منزله مضيفةً و نادياً للعلماء و طلباً للعلم. فقد كان الشيخ يأوي طلاب ألأقاليم لمباشرة دراستهم دأبه في ذلك دأب أهل أم درمان.

و في رمضان كان الشيخ يعقد حلقة عامرة بالعلماء يتدارسون فيها بعد صلاة العشاء ( صحيح البخاري ) كما كان يقوم ليلة 27 رجب بقراءة قصة المعراج. و عندما احتدم النقاش و الخلاف بين جماعات الخريجين في ناديهم بأم درمان و انتشر الخلاف حتى انقسموا إلى فريقين (جماعة شوقي ) و ( جماعة الفيل) دعاهم الشيخ إلى اجتماع صلح تم في منزله. و تعدت مكانة الشيخ أبو القاسم العلمية و ألاجتماعية إطار السودان و ذاع صيته و اشتهر بعلمه في كل أنحاء البلاد ألأسلامية لذلك و حينما سافر في عام ( 1926 م ) لأداء فريضة الحج دعي لحضور أول مؤتمر إسلامي عالمي بمكة المكرمة و لما حضر رئيس الوفد المصري ( الشيخ ألأحمدى الظواهري) شيخ الجامع ألأزهر احتج على حضور الشيخ أبو القاسم بحجة أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر و لا يصح أن يمثل بحضور شخص في هذا المؤتمر و أن الوفد المصري له الصلاحيات ليمثل السودان. إزاء هذا ألاحتجاج حدث أول خلاف داخل المؤتمر بين الدول المشاركة و أخيراً وافق المشتركون على حضور الشيخ أبى القاسم بصفته الشخصية لمكانته العلمية و الدينية فكان هذا تعظيماً له و لمكانته.

و عند ما حاصر الأمام المهدي الخرطوم كان الشيخ أبوالقاسم متواجداً ببرى المحس متردداً على الخرطوم لتلقى العلم في مسجد ( أرباب العقائد ) فذهب إليه الشيخ أبو القاسم و إخوته محمد أحمد و الشيخ الطيب مع والدهم الشيخ أحمد هاشم و قد كانوا قدموا من بربر ضمن جماعة ألشيخ ( محمد الخير عبد اللة خوجلى الغبشاوى) و بايعوه فقربهم إليه. و كتب إلى عامله ببربر ( محمد الخير عبد الله خوجلى) و أو صاه خيراً بشيبة ألإسلام ألأب أحمد هاشم و بنيه. و احتفظ الأمام المهدي بعد ذلك بالشيخ أبوالقاسم كاتباً له و كان عمره آنذاك 25 عاماً. و كان أول منشور كتبه هو منشور الأمام المهدي إلى علماء مصر. و بعد وفاة المهدي استمر الشيخ كاتباً للخليفة عبد الله من بعده فساهم في تسجيل آثار المهدية التعليمية. و كان ديوان الكتابة الذي أنشأه ألمهدي يضم كلاً من ( فوزي و أحمدى ابنى ألأستاذ الفقية محمود ود بادى الدنقلاوى) و محمد فوزي الذي كان موظفاً فى الخرطوم و قتل بعد ذلك في موقعة شيكان و بقى فوزي و أحمدى يشغلان ديوان ألإنشاء) و بعد وفاة الأمام المهدي و دخول ألخليفة في صراع مع ألشراف راجت سوق الوشاية ووشى بفوزي و أحمدى زاعمين أنهما يعملان من طرف خفى لنزع سلطته فنفيا و قتلا. وكان من كتاب المهدي أيضاً ( الشيخ محمد عمر البنا ، الشيخ الصديق أبو صفية ، أحمد النور الجعلى ، و الشيخ مدثر إبراهيم الحجاز ) و هو الذي استدعى الشيخ ابوالقاسم بعد ذلك و كان له مركزاً و اضحاً في ديوان الخليفة عبد اللة التعايشى . و لم يفلت الشيخ أبو القاسم من مؤامرات تلك الفترة و حادثة رسالة (منليك) التي سلمها له ( محمد عثمان خالد ) و ضياعها ثم العثور عليها خير دليل على ذلك و قد وردت فى كتاب ( السودان بين عهدين لسعد ميخائيل ) وواصل الشيخ عمله هذا دون كلل أو ملل بإخلاص و تفان شديدين.

و بعد إنهيار المهدية و استيلاء الجيش البريطاني على الحكم طلب الشيخ ابوالقاسم أن توقد ناراً و أحرق كثيراً من ألأوراق التى كان يحتفظ بها ثم أتى إليه سلاطين باشا مع مجموعة من الضباط ألإنجليز و قد كان يعرفه منذ أن كان فى ألأسر و طلبوا منه تسليم جميع الوثائق و الرسائل التى يحتفظ بها فأبى و قال لهم (( إننى لا أملك شيئاً، لقد ذهب كل شيء مع صاحبه )) و ألحوا عليه تارةً بالتهديد :و تارةً بالوعيد و تارةً بالترغيب و لما تبين لهم ألأمر انصرفوا و قال له سلاطين باشا (لقد أضعت فرصة كبيرة يا شيخ أبوالقاسم)

عاصر الشيخ أبوالقاسم ثورة ( 1924 م ) و التى قامت بها مجموعة من الشباب و كان للشيخ أبناء شاركوا فى هذه الثورة منهم إبنه ( محمد ألأمين أبوالقاسم و الذى ظهر إسمة ضمن أعضاء جمعية اللواء الأبيض و قد أيدهم فى ثورتهم ضد الاِستعمار

و قد حدثت للشيخ كثير من المناقشات و المنازعات مع ( المستر بيل السكرتير القضائى ) حتى ضاقوا به ذرعاً فأحالوه للمعاش عام ( 1932 م ) وكانوا يوجهون لة الدعوات فى المناسبات ليحضرها فى القصر بإعتباره من الوجهاء و ألأعيان من الدرجة الثالثة إمعاناً فى إذلاله فرفض تلبية جميع دعواتهم .

سافر إلى مصر للعلاج من مرض فى عينه ألم به و عاد بسلام واحتفل أصحابه و أصدقاؤه بعودته إلى وطنه و ترنموا بها و فى ذلك يقول الشاعر محمد عثمان محمد أحمد هاشم:

قالوا بعينيك ماء نازل أوما يشف للعين عما خلفة الماء
ما كان إغماضك الطرف النزية عمى لكنه عن عيوب الناس إغضاء

و قال الشاعر عبد اللة محمد عمر البنا:

بشراك بشراك ها قد ساعد القدر و عاد للقطر قلب المجد و البصــر
كانت قبيل النوى دنياك مبهمة ً و اليوم زينها ألأوضاع و ألغـــرر
أصيبت ألخطة المثلى بناظرها و الفقة و النحو و التوحيد و السور
مولاى غبت و غابت كل صالحة من البلاد كأن الغائب المطــر
رحلت تحرسك ألآمال محدقـــة بك الفضائل و العليـاء و الفكــر
عيناك فى كل مطلوب و مزدحـم من المكــــارم فى شأنيهما وطر
وكيف يسلم طرف لا يفارقـــة التحديق فى الحق و ألأبصار و السهر
لم تأل حسن جهاد فى الشريعة و الدين القويم طريقاً و العمى أثـــر
يا قاسم الجود فى بدو وفى حضر حتى روى الشعر فيك البدو و الحضر
من هاشم فيك إقدام و نافلــة و حكمة و نـــدى كف و مفتخـر

فى شتاء عام ( 1934 م ) أدركت الحمى الشيخ أبا القاسم و لزم منزله بأم درمان ولما اشتدت عليه العلة أدخل مستشفى الخرطوم للعلاج ثم خرج من المستشفى قبيل عيد الأضحى و كان بعض أهله يفكرون في الذهاب بة إلى مصر طلباً للعلاج لكنة كان يرد عليهم بقول الشاعر:

مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت علية خطى مشاها
ومن كانت منيتة بأرض فليس يموت فى أرض سواها

أشتد علية المرض في أيام عيد الأضحى ثم أسلم الروح في تاسع أيام العيد عند آذان العشاء في يوم ألاثنين التاسع عشر من ذي الحجة عام ( 1353 هجرية ) الموافق الثانى من أبريل عام ( 1934 م ) و عمره الثانية و السبعين. فانطوى بذلك سجل حياته الحافلة كلها عمل في سبيل رفعة الوطن و الدين و العلوم ألإسلامية.

كان الشيخ أبوالقاسم شاعراً رقيقاً عذب الألفاظ قال يمدح النبى صلى الله عليه و سلم

ليلى بدت لما أضاء الكوكب فمحت ضياه و زال عنا الغيهب
و استقبلت قمر الزمان فناله من حسنها الكلف الذى لا يذهب
و تفردت بى حسنها و دلالها و حوت من ألأوصاف ما يستغرب
و أنا بجاهك يا رسول اللة ارجو أن أكون من ألألى لك حببوا
و تحققوا بكمال عشقك و استنا روا من ضياك فأكرموا و تقربوا
أمحمد و لانت أكرم مرسل و أحق من بمديحة يتقرب

و قد جمع الأستاذ سعد ميخائيل من شعره الكثير فى كتابة (شعراء السودان) إلا أن أكثرة ضاع و ربما يكون قد طاله الحريق ضمن ألأوراق التى أحرقت بعد دخول ألإنجليز بيته بعد سقوط أم درمان. لة عدة رسائل إبان عمله كاتباً بديوان الأمام ألمهدي و الخليفة من بعده تم جمعها و تحقيقها و نحن بصدد شرحها و نشرها كحقبة تاريخية مهمة.

 

 
 

    حقوق النشر محفوظة - موقع أسرة الهاشماب