فوز والغموض النبيل

د.عبد الحليم محمد

أخي صديق مدثر

هذا كتابك بين يدي يحمل بين طياته خمس قصاصات من جريدة الخرطوم التي تصدرها القاهرة، ثلاث منها تتحدث عن الشاعر توفيق صالح جبريل - صاحب الدهليز - واثنتان عن المهندس محي الدين جمال ابوسيف، والعثور على دار فوز والمشاق التي تكبدها في ذلك. وبين طياته أيضاً تعليقات مثيرة وأسئلة حائرة تؤرق مثقفي المهجر وتسعدهم عن فترة شغلتنا في شرخ الشباب، واعياهم ما أسموه (الغموض النبيل) الذي أحطنا به صالوناتنا الفنية الخاصة، وايضاً أشارات خاصة عن فوز.. والكل يشير طالبين منا أن نتخلى عن الغموض النبيل. وحدثتني يا سعد عنهم، فزدتني * شجوناً، فزدني من حديثك يا سعد لقد كان الكتاب الذي يحمل أجمل تحية أشتاقها منك، ذكرني زيارتك الخاطفة للعاصمة، وكم سعدنا بها في ذلك الجو الجميل الساحر، والأدب الرصين المتوهج، والذكريات الحبيبة للنفس من الفن والغناء، وتحمل بين طياتها المتعة الحلوة البريئة. لقدكان حديثك وكتابك مليئاً بذكريات الأمل الحلو والأمل الممتع. لقدكانت القصاصة الأخيرة عن فوز ومحي الدين ابو سيف تدور عن دار فوز والعثور عليها، وليت لو أنك اكتفيت بالسؤال عن صحة ما جاء عن صاحبة الدار.. اهي ابنتها الوحيدة (الشول) أم هى ذاتها (حلوة)، ولكنك أثرت كوامن الذكريات والحبيب العائد وانت تجتر هذه الذكريات:

ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به * وعيشاً كأني كنت اقطعه وثباً

وفتانة العينين قتالة الهوى * اذا نفحت شيخاً روائحها شبا لها بشر الدر الذي قلدت به * ولم أر بدراً قبلها قلد الشهبا

لقد تحدثنا عن ذكرياتنا والصالونات التي كنا نرتادها والأيام التي عشناها في «موت دنيا»، وعن صالونات في القرن الثامن عشر في باريس، وصالون سيد باربي بالذات، وحتى صالون سكينة بنت الحسين. تحدثنا عن الصالونات في مصر، وصالون الاميرة نازلي (الملكة نازلي)، وصالون عائشة التيمورية، وصالون مي زيادة، وقد كان للرجال صالونات ككرمة بن هانئ لشوقي، وصالون العقاد، وفي عديد الصالونات في بيروت ولبنان.

ودعني أقول لمثقفي المهجر لكم العتبى حتى ترضوا، وليس عيبآً ان تكونوا مشغولين بها كما مشغولين به، أشكرهم لحسن غموضنا النبيل. وأود ان اقول لهم إن مسؤولية هذا الغموض النبيل، تقع على صاحبات الصالونات ورباته، فما كان لنا الا نستجيب لقول التي تقول لا حسبنا. قل في شعراً ولكن أحذر من ذكري اسمي فيه. كنا نلتقي إلى دار لنستمع فيها أغنية (بلابل الدوح ناحت على الاغصان) من مقهى ود الأغا قبالة نادي الخريجين، واذا بنا نسمع الشادية المغنية في منزلها او صالونها، وهل يجدى شيئاً ان ذكرنا ان دارها في شارع الاستبالية. او هل سيحق لنا ان نذكر نشيد الانشاد، لسليمان وان نقول ان كانت صورة مريم قد علقوها على الجدران تومض بالبريق هى لمريم العذراء أم لمريم صاحبة الدار؟ وماذا يفيد ان نقول صاحبة الصالون اسمها حليمة أو زينب التي اصرت ان لا يذكر إسمها؟ وهل يكتفي السائل اللحوح اذا قلنا له ان صاحبة الصالون اوحت لشاعرنا يوسف التني: لا انت من همي ولا انا زاهد فيما تسارق من سناك عيون وأظل اقطع بين حبك و القلي بيداء فيها حيرة وظنون بيداء كالسحر المقيد صحبها مادام يصحبها المساء الجون هل يكتفي ان أقول لأحد مثقفي المهجر ان دار مدام دي باري كانت جنوب منزل عبد الله خليل وشمال محجوب عثمان وشرق مقابر الشهداء ! سألني آخرون عن وحيد ابن الرومي ولمن أطلقت. كنا نختلف إلى دارها، وهى سيدة مثقفة تدير الحديث وزوجها واصدقاؤه مجتمعون يبحثون في الادب والشعر والأغاني والفن التشكيلي، ويشاركون في الحركة الوطنية ولكن لا يريدون أن يذكر اسمها لأنها هى لا تريد. ومن دارها تخرج قصيدة حمدي:

اليوم عادت لأشعاري قوفيها يا ساعة منك بالدنيا وما فيها

ان الشعور التي ارهقتها زمناً احييتها اليوم فأرهقها لتحييها ومهجة من نواكم اصبحت حجراً رقت فعاد نسيم الصبح يؤذيها

ونجد مدام دي باري معجبة بصالونها وتقول بين الفينة والأخرى: داري مجمع الشعراء والأدباء واذا ما غنى أحدهم:

 

كلما استنشد عني فهو جذلان طروب

لو يغيب البدر عنا فعن البدر انوب غاب يا انس بدر هكذا انت تغيب

تقول:( ده ما زي كلام ابو صلاح حين يقول «والبدر كان غاب أبقي في بداله» فيضحك الحاضرون جميعاً ويستعيدونها مرات بصوتها الشجى). كل هذا والجميع في سمر ممتع وجو شاعري، وهى بالرغم قلة ثقافتها وعدم التكافؤ في الدراسة، تغني وتستمر في الغناء، كما في بعض الاحيان تكون هي الملهمة للغناء والشعر الرصين. ترى لو قلت لمثقفي المهجر لقد خرجت قصيدة خليل فرح (دير كؤوسك انشدني باب) من دار فوز ومن مدام دي باري خرجت قصيدة (في الفؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي الوطن العزيز) ليوسف التني، ماذا هم قائلون؟ واذا قلنا لهم إن هذه الصالونات قد درست معالمها وانطفأت انوارها وغيب الثرى صاحباتها وروادها، فما بالهم يلحون ويصرون على أكثر من ذلك من الحديث او من توضيح مكان أين هذه الصالونات وما أسماء صويحباتها!!

ان الغموض النبيل، وشكراً لهم ان وصفوه بالنبيل، انما هو ارادة صويحبات الصالون ونحن قد نزلنا عن رغبتهن. لقد كنا في ذلك الزمان لا يذكر اسم السيدة مهما ألهمت من الفن ومهما وصلت من الثقافة، ولكن الآن وبعد تلك الحقبة، ظهرت الشاديات المغنيات كالفلاتية ومهلة العبادية وأم الحسن الشايقية وعابدة الشيخ وسمية حسن وحنان النيل، وعقبتهن العازفات على الموسيقي منهن اسماء وذكية واناهيد صاحبة الأنامل اللطاف، وقد أمرت على المضراب وحركت الجماد. فان جيلنا يختلف عن جيلهم ودنيانا عن دنياهم.

خذوا ديناكمو هذي

فدنياواتنا كثر

وأنت - يا صديق- قد اقحمتنا بهذا الحديث إقحاماً، واما اصدقاؤك من مثقفي المهجر، فيعيشون في دنيا غير دنيانا وفي عالم غير عالمنا فلهم منا العتبى حتى يرضوا ولا نستطيع ان تقول اكثر من هذا.

وها أنت تثير التساؤل عن جيل المعاصرين، وتتحدث عن السفير عبدالهادي الصديق الناقد المعروف والأديب الفنان والموسيقار المبدع وتساؤله عن قصيدة خليل فرح (تم دور إدوّر)، وانا في هذه الأيام وثيق الصلة به اذ انه يسكن على بعد خطوات من منزلي وقد استمتعت اخيراً من حديثه عن قصيدة التجاني يوسف بشير (انت يا نيل ياسليل الفراديس)، وهو أيضاً من الذين يعنون بشعر خليل فرح. وكان موضوع الحديث قصيدة خليل فر ح (تم دور وادوّر) وسؤاله ادوّر من؟ والتشكك الذي أثرته انت عن التلميح بما قام به عبد الفضيل الماظ. وقبل ان نسير في هذابالتفصيل، أود ان اقول لك ان الاحتفال بالزواج في ذلك العهد او في أوائل العشرينات، وبالذات عرس صديقنا محمد عثمان منصور، قد كان يمتد في بعض الاحيان إلى اربعين يوماً ويؤمه ويحضره كبار الفنانين وشعراء الاغنية السودانية مثل ابراهيم العبادي واحمد حسين العمرابي وخليل فرح وابو صلاح على سبيل المثال لا الحصر. وقد كان في يوم إلقاء هذه القصيدة، منه القاء قبلة في نفس المناسبة لتهنئته من المرحوم حدباي عبد المطلب الذي ألقى قصيدته:

زهر الرياض في غصونه ماح

واتراخي في الساحة أم سماح شايقني من طبعه الجماح

ونسبة لحضور هذا الجمع من الفنانين، وبخاصة اذا كانوا من أصدقاء خليل فرح، هذه تكون فرصة لهم ليلتقوا بالحسناوات (السالبات عقولنا وجناتهن السالبات السالبة) كما يقول المتنبي، وكان خليل فرح يدخل على هذه الحسناء ويتكلم مع هذه ومع تلك ويهمس في أذن أخرى، فاثار هذا غيرة و حسد الشاعر مصطفي بطران، وهذا مما دعاه لبدء القصيدة:

 

تم دور وإدوّر عم نوره شال فات الحلة نوّر

زي بدر التمام أما في قول خليل:

مين يقوم يتهوّر يبري القيف هناك تحتو الدابي كوّر

قالوا الكون إتطوّر لا عاشق عفيف لا جميل اتصوّر لم يكن هذا من قريب أو بعيد يشير إلى أى تهور، او يعد ذلك تهوراً من عبد الفضيل الماظ، ولو رجعت إلى القصيدة كلها، يتبين لك هذا الذي أقوله يشهد بذلك المرحوم احمد حسين العمرابي والمرحوم حدباي، لأن بطران قال في أحد أبياته:

اسمعوا يا دقاشم

العباس أبونا من سلالة هاشم

قال احمد حسين العمرابي هذا ما قصد ان يكسب به عطف اولاد الجعليين اذا ما اشتدت الخصومة بينه وبين مصطفى بطران.

لقد تحدثنا في هذا الامر مع الصديق السفير مدة طويلة، وأظن انه وافق على ان هذه القصيدة كلها تهنئة لمحمد عثمان منصور، وها أنا اعيد عليك بعض ابياتها التي تؤكد انها فقط لتهنئة العريس، واذا كان هنالك تحدي، فالتحدي الذي يتحدث عنه هو تحدي بطران. «2» عزيزي د.الحاج مصطفى تحية طيبة انه ليسرني ان أشاركك لذة العثور على دار فوز من المقابلة التي اجراها د.معتصم احمد الحاج، مع المهندس محي الدين جمال ابو سيف في منزله ببري قبل وفاته بعام، وعرف منه أن دار فوز في المسالمة شمال دكان العدني وقربياً من خلوة الشيخ حسن البصري، وان اختيار الدار كان مصادفة حين التقى محي الدين جمال ابو سيف في سوق ام درمان مصادفة (حلوة) التي أخبرته بأنها استأجرت بيتاً للسكن مع ابنتها الوحيدة (الشول)، واتفق معها على استئجار الصالون والحوش غير المستغل في ذلك المنزل ليكون داراً لجمعية الاتحاد السوداني، للاجتماعات السرية للجمعية وممارسة الاجتماعيات السياسية والثقافية والأدبية والفنية والترفيهية. وكنت قد علمت ذلك من مدة طويلة من المرحوم محي الدين جمال ابو سيف، ولم يكن هذا غريبا لدي اذ كنت وثيق الصلة، وعرفت منه ذلك فقلت له مداعباً لقد ذكرتني بأبيات للشريف الرضي:

ومقبل كفي وودت بأنه اومي إلى شفتي بالتقبيل

جاذبته فضل العتاب وبيننا كبرالملول ورقة المملول ولحظت عقد نطاقه فكأنما عقدالجمال بمرطه المحلول جذلان ينفض من فروج قميصه أعطاف غصن البانة المطلول

من لي به والدار غير بعيدة عن داره والمال غير قليل

وقال آنه سمى الدار باسم (فوزي) وقد اتخذ هذا الإسم عن اسماعيل فوزي صاحب مجلة الكشكول، فكان مفتاح السر اننا سنلتقي عند فوزي. وقد كلفت (الشول) بأمر الدار والعناية بها. وقد نسقت الدار بيد فنان بارع، واي يد أبرع من يد فوز!! وأظن الذي سماها اخيراً هو توفيق صا لح جبريل باسم (فوز) صاحبة العباس بن الأحنف، وان حلوة والدتها وليست صاحبة الدار، ويدل على ذلك قول خليل فرح في قصيدته الرحلة

دير كؤوسك وانشدني باب حبيبي زين الشباب

السلام الحالي ومذاب في الثنايا الغر العذاب يطفئ نار الشوق والعذاب (فوز) قول أمين قلبي ذاب مدت أيده وقالت حباب يا حباب أخوان الشباب

وقد وصفت (الشول)،وهى صاحبة دار فوز الحقيقية، هذه الأبيات التي ذكرتها وقد قالها توفيق صالح جبريل عن (حلوة) فهى ليست لحلوة وانما هى لفوز:

 

وتدير الرأس غانية حسنها كالبدر متسق

حليها نفس مهذبة وشباب ريق لبق فاذا ما اسفرت سبحت نحوها الأرواح تستبق لو تغنت بيننا خشعت حولها الآذان والحدق ونجوم الليل ساهرة كجفون هذها الأرق

وكما جاء في القصاصات ، فقد استمر الرفاق يجتمعون في دار فوز واستمروا في دفع ايجار الصالون والحوش حتى عام 1929م، حيث تزوجت حلوة وتزوجت ابنتها الوحيدة الشول (فوز) صاحبة الصالون من رجل كريم عطوف، كفل لها الحاضر وأمن لها المستقبل وأخلصت له الود، وكما قال عمر بن أبي ربيعة:

 

وأعجبها من عيشها ظل غرفة وريان ملتف الحدائق اخضر

ووالي كفاها كل شئ يهمها فليست لشئ آخر الليل تسهر

هكذا قال نجيلة، صاحب «ملامح من المجتمع السوداني». واذا كانت فوز الشول بت حلوة قد شهدت جزءاً من الحركة الوطنية مع جميعة الاتحاد، فقد حضرت مع زوجها بدء الجزء الثاني من مؤتمر الخريجين، اذ كان بعلها أمين المال لمؤتمر الخريجين.

وهكذا انقشع الغموض النبيل كما سميتموه بعد مضي ثمانين عاماً. ودعني اقول ان الغموض النبيل كان سببه صاحبة الشأن. آمل ان أكون 

قد اجبتك، وشاكراً لوصفك استاذ الأجيال وقد بلغت التسعين .

المصدر

http://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147484041&bk=1